فصل: باب: الخُرُوجِ إِلَى المُصَلَّى بِغَيرِ مِنْبَر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ لا يُفَرَّقْ بَينَ اثْنَينِ يَوْمَ الجُمُعَة

لأن الجمعة جامعةٌ للجماعات، فلا يُفَرِّقُها بالتَّخَطّي لأَنَّ فيه معنى التأذِّي‏.‏

910- قوله‏:‏ ‏(‏فَصَلَّى ما كُتِبَ لَهُ‏)‏ وتَمَسَّك به الحافظ ابن تيمية على نَفْي السُّنَنِ القبلية يوم الجمعة، وأنه لا تحديدَ فيها، بل هي في خِيرَةِ الرَّجُل كم أَدْرَكَ صَلَّى‏.‏ قلت‏:‏ ولنا ما في قِصَّة سُلَيْك‏:‏ «أركعت الركعتين قبل أن تجيءَ»- بالمعنى- كما عند ابن ماجه وسنذكره‏.‏ فهو مَحْمُولٌ على السُّنةِ القَبْلية دونَ تحيةِ المسجد‏.‏

باب‏:‏ لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ في مَكانِه

ويَقْعُدَ بالنصب أولى ليفيدَ النَّهيَ عن المجموع‏.‏

باب‏:‏ الأَذَانِ يَوْمَ الجُمُعَة

كان الأذانُ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصاحبيه واحدًا، ولَعلَّه كان خارجَ المسجد كما عند أبي داود، فإِذا كَثُر الناسُ زاد عثمانُ أذانًا آخر على الزَّوْرَاء خارجَ المسجد، ليمتنعَ الناسُ عن البيع والشراء‏.‏

والظاهر أن الأذان الثاني وهو الأول انتقل إلى داخلِ المسجد، ثم الأُمة أخذت بِفِعْله وتعاملوا به واحدًا بعد واحدٍ، إِلا ما نَقَلَ أَبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عن بعض أَهل المغرب‏:‏ أَنه لا تَأَذينَ عندهم غير مرة واحدة‏.‏ ثم إذا تَسَلَّط بنو أمية نقلوا الثالث على المنارة، والذي كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم جعلوه في المسجد- أمام الإِمام ولم أجد على كون هذا الأذان داخلَ المسجد دليلا عند المذاهب الأربعة إِلا ما قال صاحب «الهداية» إنه جَرَى به التوارث، ثُم نَقَله الآخرون أيضًا‏.‏ ففهمت منه أنهم ليس عندهم دليلٌ غير ما قاله صاحب «الهداية»، ولذا يلجأون إلى التَّوارث، أما الإِقامة فكانت مِن قبلُ في المسجد‏.‏ بقي أذانُ الجَوْق‏:‏ ففي «الدر المختار» أنه مُحْدَثٌ‏.‏

قلت‏:‏ وعلى مَنْ يَدَّعِي الإِحداثَ أن يُجيب عما في «الموطأ» لمالك- ص 36 ‏:‏ أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يُصلُّون يومَ الجُمعة حتى يخرجَ عمرُ بن الخطاب، فإِذا خرج عمر وجلس على المنبر وأَذَّن المؤذنون‏.‏ وقال ثعلبة‏:‏ «جلسنا نتحدثُ فإِذا سَكَت المؤذنونَ وقام عمرُ يخطبُ أَنْصَتْنا فلم يتكلمْ مِنَّا أَحَدٌ»‏.‏ ا ه- فإن قوله‏:‏ سكت المؤذنون، وأذن المؤذنون، بصيغة الجَمْع يدلُّ على تَعَدُّدِ الأذانين في عده رضي الله تعالى عنه‏.‏

باب‏:‏ المُؤَذِّنِ الوَاحِدِ يَوْمَ الجُمُعَة

أي الأذان الواحد‏.‏

وقد مَرَّ معنا وجه تعبير الأذان بالمؤذن‏.‏ وهو في ذهن الراوي أن الواحد لا يُؤذِّنُ إلا أذانًا واحدًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إِذا جَلِّس على المنبر‏)‏‏)‏ وعند أبي داود‏:‏ أن هذا الأذان كان في عهده صلى الله عليه وسلّم عند باب المسجد، وفي لفظ‏:‏ على المنارة‏.‏

913- قوله‏:‏ ‏(‏زادَ التأذينَ الثالثَ‏)‏ أي باعتبار التشريع، وإلا فهو أول باعتبار التأذين به‏.‏ والثاني ما كان في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والثالث هو الإقامة‏.‏ وقد مرَّ معنا التنبيه على أن مَنْصِب الخلفاء بين الاجتهاد والتشريع، فالمجتهدون يمشون على المصالح المُعتبرة، والخلفاء على المصالح المرسلة أيضًا‏.‏

باب‏:‏ يُجِيبُ الإِمامُ عَلَى المِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاء

ومرَّ معنا الأقوال في جواب الأذان عند ذلك مرارًا‏.‏

باب‏:‏ الجُلُوسِ عَلَى المِنْبَرِ عِندَ التَّأْذِين

كان التأذينُ يومَ الجمعة حين يجلس الإِمام، يعني به أن أذان يوم الجمعة كان على خلافِ دأب سائر الأيام، ففي سائر الأيام كان يُقدم شيئًا، وفي الجمعة كان مُتَّصِلا بالخطبة بدون مُكْثٍ طويل بعده، وكان خارجَ المسجد على سقف بيت أنصاريّ، وكان للصلاة ولم يكن للخطبة أذان‏.‏

باب‏:‏ التَّأْذِينِ عِنْدَ الخُطْبَة

وفي «الفتح» عن الطبري‏:‏ أن هذا الأذانَ كان في زمن عَمرِ رضي الله تعالى عنه أيضًا، إلا أنه لم يكن مُشْتهِرًا اشْتِهَارَه في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه‏.‏ إِلا أنه حَكم عليه بالانقطاع، ولعل زيادةَ عثمان رضي الله تعالى عنه الأذان الثالث كزيادة أذان بلال رضي الله عنه في الفجر‏.‏

واعلم إن مفعول القول لا يكون إلا جملة فيلزمه «إن»- بالكسر- إلا في لغة بني سُلَيم إذا كان مُصَدَّرًا بحرف الاستفهام، فحينئذٍ يصح أن يكون مفعولُه مُفْردًا‏.‏

917- قوله‏:‏ ‏(‏ولتعملوا صَلاتي‏)‏ وأخطأ ابن حَزْم خطأ فاحشًا حيث ذهب إلى أن تلك الصلاةَ كانت نافلةً، مع أنها كانت صلاةَ الجمعة كما هو منصوصٌ عند البخاري‏.‏

باب‏:‏ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَر

وفي «الفتح»‏:‏ أن المِنْبر وُضِع له في التاسعة‏.‏ وثبت عندي في الخامسة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏كان جِذْعٌ يقومُ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أي يتكىءُ عليه‏.‏ وتسامَحَ الرَّاوي في اللفظ‏.‏ وظاهر كلام السَّمْهُودِي أن تلك الجِذْعَ كانت عَمودًا من عُمُدِ الحصة المُسْقَفة يتكىء عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وحينئذٍ يكون اتكاؤه بطريق الاستناد لا بطريق التأبط‏.‏

وعند الدارمي روايةٌ تدلُّ على أنه كان يتكىء بذلك العَمود على الإبط‏.‏ وقد ثَبت أنَّ الحنَّانَة دُفِنت يوم وُضِع المنبر‏.‏ وأَقَرَّ المُحَدِّثون أن الخشبة التي قام عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في قصة ذي اليدين كانت هي الحَنَّانة‏.‏ فثبت أنَّ قصة ذي اليدين قِبلِ بناء المِنْبر‏.‏ وَوَضْعُ المِنْبر ثَبَت عندي في الخامسة فَثَبت تَقَدُّمُ قصة ذي اليدين، وإذن لا بد أن تكونَ قبل نَسْخ الكلام‏.‏

باب‏:‏ الخُطْبَةِ قائمًا

والقيام واجبٌ عند الشافعية، وسنةٌ عندنا‏.‏

باب‏:‏ يَسْتَقْبِلُ الإِمامُ القَوْمَ، وَاسْتِقْبَالُ النَّاسِ الإِمامَ إِذَا خَطَب

وكان طريق الاستماع عند السلف أنهم كانوا يجلسون للخُطبة كما يجلسون اليوم في مجالس الوعظ، بدون اصطفاف‏.‏ وهو الذي عناه الراوي بالاستقبال‏.‏ ثُمَّ جرى الاصطفاف فيما بعد‏.‏ وفي «المبسوطِ»‏:‏ أَن الإِمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يستقبل الإِمام ويَصْرِف وَجْهه إليه‏.‏ وهو في الصفِّ، فالسُّنَّة هي الاستقبال‏.‏ أما الاصطفاف فلا يُحكم عليه بِكَوْنه بدعةً، لأَنه ثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يذهب إلى النِّساء لأَخْذ الصدقة يوم العيدين وهُنَّ في صفوفٍ بعد‏.‏ فدلَّ على ثبوت الصفِّ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قالَ في الخطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ‏:‏ أَمَّا بَعْد

قيل‏:‏ إن أول مَنْ سُبِقَت عنه تلك الكلمةُ داودُ عليه السلام، وهي التي عُنيت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفَصْلَ الْخِطَابِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 20‏)‏‏.‏ قال سيبويه‏:‏ إن أصله مهما يكن من شيءٍ بعد من الغايات مَبْني على الضَّم‏.‏ وللنُّجَاة في «إذ» الشرطية قولان، قيل‏:‏ إن العامل فيه فِعْلُ الشرط، وقيل‏:‏ فعلُ الجزاء‏.‏ واتفقوا في الظرفية أنَّ العامل فيها فِعْلُ الجزاء‏.‏

924- قوله‏:‏ ‏(‏لكنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ‏)‏ أي جماعةً ومن خصائص الجماعة أنها تجلِبُ الوجوب، ولذا أمرهم أن يصلوا بها في البيوت‏.‏ وحينئذٍ لم يخالف ذلك ما مرَّ معنا من وجوب صلاة الليل، وأنَّ النَّسْخ لم يرد فيها، وإنما ورد التخفيف من التطويل‏.‏ وأنه تأكد بها الوتْرُ مع تغيير الشاكلة يسيرًا، لأنه لو كانت تلك الصلاة نُسِخت كما فهموه، لم يكن لخشية افتراض صلاةٍ نُسِخت معنىً‏.‏ وفي «الصحيح» لابن حِبان‏:‏ «خَشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم الوِتْرُ»‏.‏ قلت‏:‏ الوِتْر فيه بالمعنى العامِّ الشاملِ لصلاة الليل أيضًا، فتنبَّه‏.‏

باب‏:‏ القَعْدَةِ بَينَ الخُطْبَتَينِ يَوْمَ الجُمُعَة

وهي سنةٌ عندنا‏.‏ وفَرَّق اللغويون بين الجلوس والقعود ولم يستقروا على شيءٍ‏.‏ ولو ثبت أن القعودَ يكون من القيام بخلاف الجلوس فإِنَّه من الاضطجاع، لكان مُعتبَرًا ههنا أيضًا‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِماعِ إِلَى الخُطْبَة

وهو واجبٌ على القوم‏.‏ ويجوز للإِمام أن يأمُرَ ويَنْهَى عند الحاجة خلالَ الخُطبة‏.‏ وللقوم أن يمنعوا بالإِشارة مَنْ كان يَلْغط‏.‏

وذهب أحمد ومالك أيضًا إلى الوجوب‏.‏ وهو القول القديم للشافعي رحمه الله تعالى‏.‏ وفي الجديد‏:‏ أنه مُستَحبُّ‏.‏ ومِن تفاريعه وجوبُ الفاتحة على المقتدي، فقد كان يختار أولا وجوب الاستماع، ثم رجع إلى وجوب القراءة‏.‏ ثم أنه لم يأت للقول الجديد إلا بوقائع في عهده صلى الله عليه وسلّم لا تخالِفُنا أصلا‏.‏ وصرَّح الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى- مِنَّا- بجواز الكلام للإِمام عند الحاجة‏.‏

929- قوله‏:‏ ‏(‏مَثَلُ المُهَجِّر‏)‏ والهَاجِرة في أصل اللغةِ لِنِصْف النهار، ثُم أُطلق في التكبير تَوَسُّعًا، وهو من الصبح عند الجمهور، ومن الزوال عند مالك رحمه الله تعالى‏.‏ وعند أبي داود- ص 150- في‏:‏ باب فضل الجمعة في حديث طويل‏:‏ «فإِذا جَلَس الرجل مَجْلِسًا يَسْتَمْكِنُ فيه من الاستماع والنظر- إلى الإمام- فأَنْصَتَ ولم يَلْغُ، كان له كِفْلان من أَجْر، فإن نأى وجلس حيثُ لا يسمعُ فأَنصَتَ ولم يَلْغُ كان له كِفَّلُ من الأَجْر، وإن جَلَس مَجْلِسًا يستمكن فيه من الاستماع والنظر فَلَغا ولم يَنْصِت كان عليه كِفْلان من وِزْر- إِلخ وكِفْلان مِن وِزْر مع اتحاد الشَّرْط في الصورتين‏.‏

باب‏:‏ إِذَا رَأَى الإِمامُ رَجُلا جاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَين

باب‏:‏ مَنْ جاءَ وَالإِمامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَينِ خَفِيفَتَين

وهو مذهب الشافعي، وأحمد، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه يَقْعُد كما هو ولا يصلي، ولا يترك فريضةَ الاستماع والإنصات‏.‏

ويقضي العَجَب من الشيخ النووي كلّ العجب حيث نَقَلَ عن القاضي عياض أنه هو مذهبُ الجمهور من الصحابة والخلفاء الراشدين، ثم قال‏:‏ إن ما أَوَّل به الخصومُ قصة سُلَيك تأويلٌ باطل يَرُدُّه صريحُ الحديث‏.‏

وجملةُ المقال في هذا الباب أن هناك أمرين‏:‏ واقعة سُلَيك، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم

أما واقعة سُلَيك فكما في الأحاديث‏:‏ أنه دخل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يَخْطُبُ يومَ الجمعة، فقال‏:‏ «أصليتَ»‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ «قُمْ فَصَلِّ الركعتين»- مسلم ‏.‏

وأما القول فكما في «الصحيحين» بعده‏:‏ «إذا جاء أحدُكُم يومَ الجمعة والإِمامُ يخطُبُ فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما»‏.‏ والتفضِّي عن القول مُشْكِل فإِنه تشريع، أما الواقعة فيمكنُ حَمْلُها على الأعذار، فمنها ما عند النِّسائي في «كبراه»‏:‏ أنَّ هذا الرجلَ دخَل بِهيئةٍ رَثَّةٍ ولم تكن عليه ثيابٌ، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يتصدَّقَ عليه الناسُ فَرَعَّبهم فيه، فَأَمَرَه بالصلاة ليرى الناسُ هيأَته البذة فتصدقوا عليه‏.‏ هكذا في «المسند»، و«صحيح ابن حِبَّان»، والطحاوي‏.‏ وبَوَّب عليه النسائيُّ بالحَثِّ على الصدقة، إشارة إلى ما هو الأَهم في قِصَّته‏.‏

فإِن قلت‏:‏ لو كان كما قلتم لَمَا أمره بالركعتين في الجمعة الأخرى، وفي التي بعدَها أَيضًا، فهل كان يريد الإِراءة كلَّ مرة‏؟‏ وإِذن لا يكون المقصودُ إلا تَحْرِيضَه على تحية المسجد، والتصدُّق عليه يكون تَبَعًا‏.‏ قلتُ‏:‏ وفي الجمعة الثالثة تَرَدَّدَ الراوي‏.‏ ولا بُعْد في الجُمُعتين أن يكون أَمْرُه لذلك، وعند ابن حِبَّان فيه زيادة وهي‏:‏ «لا تَعُودن لِمِثْل هذا»‏.‏ ا ه‏.‏ فحملوها على النَّهي عن تَرْك هاتين الركعتين‏.‏ قلتُ‏:‏ بل نَهْيُّ عن الإِبطاءِ عن الجمعة وحُضُوره في وقت الخطبة حنى لزِمه إمساكُها، فهو كقوله لأبي بَكْرة رضي الله عنه حين بادر إلى إِدْرَاك الرُّكوع‏:‏ «زادك اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُد»‏.‏ وقد اختلفوا في شَرْحه أيضًا كما مرّ‏.‏

ثم عند مسلم- ص 287- أَنه جاء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قاعِدٌ على المِنْبر، فدلَّ على أنه لم يكن دَخَل في الخُطبة بَعْدُ، بل كان يريدْ الخطبة سيما على مذهب الشافعية، فإِن القِيام من شرائط الخطبة عندهم‏.‏ فلزِمهم أن يقولوا إِنَّه لم يكن دَخَل في الخطبة‏.‏

وتمسك الشيخ العيني رحمه الله تعالى برواية النسائي، وليس فيه ما رامه فلا يتم التقريب، ولذا عَدَلْت عنه إلى حديث مسلم‏.‏ وبه يَتم مقصوده إن كان غرضُه أنه صلى الله عليه وسلّم لم يكن دخَل في الخطبة، وإن كان مقصودُه أنه كان بدأَ الخطبةَ إلا أنه أمسك عنها‏.‏ فله ما عند الدَّارقطني‏:‏ أنه كان أمسك عن خطبته‏.‏ وهو مرسَلٌ جيد، وهو صَرِيح في أنه كان دخل في الخطبة، إلا أنه أمسكها ريثما صلى الرجل صلاته وحَثَّ فيه على التصدق عليه، ولا يُدْرَى أنه استأنفَ خطبته بعده، أو بَنَى عليها، والظاهر الأول‏.‏

وبقي أنه هل يجوز للإِمام أن يتكلم في الخطبة‏؟‏ فالأحسن عندي أن لا يوسع فيه‏.‏ وينبغي أن يُقْتَصر على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن صَرَّح الشيخ ابنُ الهُمام رحمه الله تعالى بجوازه عند الحاجة‏.‏

ثم إنه ما الدليل على كونها تحيةَ المسجدِ كما فهموه‏؟‏ لمَ لا يجوز أن تكون سنةً قَبْلِيةً للمجمعة‏؟‏ فعند ابن ماجه بِسَندٍ قويَ‏:‏ «أصليتَ الركعتين قَبْل أن تجيءَ»‏؟‏ ومعلومٌ أن تحية المسجدِ لا تكون إلا بعد المجيءَ‏.‏ ولذا أخرجه الزَّيلَعي في السُّنة القَبْلِيَّة، وحَكَم عليه أبو الحجاج المِزّي الشافعي وابن تيمية بكونه تَصْحِيفًا من الكاتب‏.‏ والصواب‏:‏ «قبل أن تَجْلِس»‏.‏

قلتُ‏:‏ كيف يُحْكم عليه بالتَّصْحِيف مع أن الإِمام الأَوْزاعي، إِسحاق بن رَاهُويه رحمهما الله تعالى بَنَيا عليه مذهبهما، فذهبا إلى أَنه يصليهما في البيت وإلا ففي المسجد، وإن دخَل الإِمام في الخطبة‏.‏ وقد مرَّ معنا أن الحديث إذا ظهر به العملُ انقطع عنه الجدل‏.‏ ثم رواية جابر رضي الله عنه ومَذْهبُه كما في جزء القراءة أنه كان يصلِّي بهما في المسجد وإنْ خطب الخطيب، وإن كان قَدْ صلَّى في البيت‏.‏

وهذا يدل على صِحَّة لفقظ‏:‏ «قبل أن تجيءَ»، لأن قوله ذلك ناظر إلى لفظ‏:‏ «قبل أن تجيء»، يعني به أَنه لا يقتصر عليهما في البيت، بل يصلِّيهما في المسجد أيضًا على سُنَّة سليك، وإن لم يكن مذهبه كمذهبنا‏.‏

ثمَّ سؤالُه عن الركعتين إنما يتأَتَّى إذا كان عن السُّنةِ القَبْلية، أما عن تحية المسجد فإِنه حَضَر بمرأَى عينيه ولم يُصَلِّ فما معنى السؤال‏؟‏ اللهم إلا أن يقال إِنه لم يقع بصرُه عليه ابتداءً، فإِذا رآه سئل عنها‏.‏ وأَوَّله الحافظ بأن المرادَ منه قَبْل أن تجيءَ من ذلك المكان إلى هذا المكان، فإِذن السؤالُ عن الصلاة في المسجد دون البيت‏.‏ قلتُ‏:‏ وهو غَنيُّ عن الردِّ‏.‏ بقي القول‏:‏ فجوابه أن الدَّارقطني تَتَبَّعَ على «الصحيحين» في عدة مواضعَ، وتتبَّع على البخاري في نحو مئة موضع ونَيِّف، وكلها في الأسانيد إلا هذا الحديث فإِنه تَكلم فيه في المتن‏.‏ وقال‏:‏ إن أَصْلَه «واقعة» جعَلَه الراوي «ضابطة»‏.‏ فالصواب أنه مُدْرَج من الرَّاوي‏.‏

قلتُ‏:‏ ويؤُيده صنيعُ البخاريّ، فإِنه أخرج هذا القول مِرارًا ثُمَّ يُترجِم عليه بهذه المسألةِ مع أنه اختارها، فلو كان القول هو الأصل عنده لأَخرجه البتة لكونه صريحًا فيما ذهب إليه، لكنه لم يُخَرِّجه في أبواب الجمعة، وتمسك به في مسألة أخرى، وهي مثنوية الصلاة مع أن لها أحاديثَ أخرى أصرَحُ منه عنده، والذي سيق له الحديث هو الركعتان عند الخطبة‏.‏ فَتَرْك التمسك منه على مسألةٍ مذكورة صراحةً والتمسُّك على مسألةٍ ضمنيةٍ دليلٌ واضحٌ على أنه لم يثبت عنده القولُ، ولكنه واقعةٌ كما قال الدارقطني‏.‏

وقد تحقق عندي أَن من عادة البخاري أن الحديث إذا كان صحيحًا عنده في نفسه، وتكون فيه مسألة لا يقوم هذا الحديثُ حجَةً عليه لأَمرٍ سَنَح له، لا يترجم على هذا الجزء وعلى هذه المسألة‏.‏

ثم أقول‏:‏ إن السُّنَّة لو كانت جَرَت بهذا القول وإن الداخل في المسجد يصلِّي تحية المسجد، وإن خطب الإِمام، فلم أمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عن خطبته كما مرَّ عن الدارقطني، فإِذا نظرنا إلى فِعْله صلى الله عليه وسلّم أنه لم يكن دَخَل في الخطبة على لفظ مُسلم، أو دخلها ثُمّ أمسك عنها على ما عند الدارقطني عَلِمنا شَرْحَ قولِهِ من فِعْله صلى الله عليه وسلّم وهو أَنَّ المراد من قوله‏:‏ «والإِمام يخطُبُ»أي كاد أن يخطب، ولا بِدْع في إِطلاق «خطب» إذا كان بصدد الخُطبة ولم يبق منه غيرُها، على أن عند مسلم- ص 217 ‏:‏ «إذا جاء أحدُكم وقد خَرَج الإمامُ» إلخ فدل على أن الأمر فيما لم يخطب بَعْدُ وهو بصدد أن يخطُب‏.‏

وهذا يذلك ثانيًا على أن المرادَ من قوله‏:‏ «خطب» أي قارب الخُطبة وبلغ مَوْضِع الخُطْبة‏.‏ وفي بعض اللفظ عند البخاري ص 156 ‏:‏ «والإِمام يخطُبُ، أو قد خَرَج»، وليس فيه «أو» عندي للتنويع بل للشك من الراوي، فما دام لم ينفصل لفظُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم لا تُبنَى عليه المسألة‏.‏ وهو كذلك بالشك عند أبي داود أيضًا‏.‏

وقد سَلَك الطحاوي في جوابه مَسْلَكًا آخر وهو إقامة المعارضة بنحو ما رُوي في «الصحيح»‏:‏ «أن رجلا شَكَا إِليه القَحْط وهو يَخْطِب، فاستسقى له ولم يأمُرْه بأَداء تحية المسجد»‏.‏ وكذلك جاء عنده رجل آخر يسألهُ عن حاجته، فأمره أن يَقْعُد ولم يأمُرْه بالركعتين‏.‏

باب‏:‏ رَفعِ اليَدَينِ في الخُطْبَة

واعلم أنه ثبت كراهةُ رَفْع الأيدي في الخطبة‏.‏ وحَمَله العامة على أن هذا الرَّفْع كان للتفهيم، كما شاع الآن في الخطباء والواعظين، أنهم يحرِّكُون أيديهم للتفهيم‏.‏ فلعلَّه فَعَله بِشْرٌ وكرهه الناس‏.‏ وقالوا‏:‏ إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن يزيد على الإشارة بالأصابع‏.‏

قلتُ‏:‏ والأرجح عندي أن تلك الإشارة كانت للدعاء للمؤمنين، فإنه مسلوكٌ في الخُطبة فأنكروا عليه، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن يَرْفَعُ له إلا أصبُعُه المباركة‏.‏ هكذا شَرحه البيهقي، ونقله شارح الإحياء في «الإتحاف»‏.‏

قلتُ‏:‏ ويؤيده ما عند مسلم- لقد رأيت بِشْرَ بن مروان يومَ الجمعة يرفعُ يديه- أي للدعاء- وأصْرَحُ منه ما عند الترمذي ففيه‏:‏ وبِشْرُ بن مروانَ يخطُبُ، فرفع يديه في الدعاء‏.‏ وإنما حَمَله النَّاسُ على تحريك الأيدي، لخمول هذا النوع‏.‏ والطريق المعروف في الدعاء الآن رَفْع الأيدي كلتيهما‏.‏ ثُمَّ تَتَبَّعْتُ ذلك أنَّ الدعاء هل يكون بِرَفْع الأصبع‏؟‏ ففي «الدُّر المختار» عن «القُنية» في باب صفة الصلاة‏:‏ والإشارة لِعُذْرٍ كَبْرد يكفي فجوِّز بالإشارة عند العذر، كأنه اختصار من رَفح الأيدي‏.‏ وفي «البحر»‏:‏ أن الدعاء على أربعة أنحاء‏:‏ دعاء رَغْبة، ودعاء رَهْبة، ودعاء تَضَرّع، ودعاء الخفية، وجعل الدعاء برفع الأصبع من الضَّرْب الأول‏.‏

«وفي البحر» في باب الوتر عن مولى أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كان يرفَعُ يديه في القنوت للدعاء، وتارة يكتفي بالأصبع أيضًا‏.‏ ونُسِب ذلك إلى إمامنا أيضًا‏.‏ ثم إنهم لا يكتُبون أن تلك الإشارة تكون بِظَهْر الأصبع أو ببطنها‏.‏

قلتُ‏:‏ إن كانت اختصارًا من الدعاء، فالأَظْهر أنها تكونُ ببطنها‏.‏ وإن كانت للتفهيم وغيره فهو مُخيَّرٌ فيه إن شاء فَعَل بالظَّهر أو بالبَطْن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فَمَدَّ يَدَيْه ودَعَا‏)‏ وهذا كان كهيئةِ الدعاء المعروف‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِسْقَاءِ في الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَة

وهو ثلاثة أقسام‏:‏ الدعاءُ له بعمد الصلواتِ الخَمْس، وفي الأوقات سوى الخَمْس، والصلاة له‏.‏ واختلفوا في النوع الأخير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الكُرَاع‏)‏ يُطلق على كلِّ ذات قوائم أربع ولا سيما الخيول‏.‏

933- قوله‏:‏ ‏(‏جَوْد‏)‏ هو المطر الذي تكون قطراتُه كبيرة‏.‏ وفي «فتح الباري» أنه قال بعد ما مطرت السحاب‏:‏ «لو كان أبو طالب حيًا لقرَّت عيناه، فإنه كان يُستسقى بوجهه في زمن صِبَاهُ‏.‏ وفيه قال‏:‏

وأَبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بِوَجْههِ *** ثمال اليتامى عِصْمَةٌ للأَرَامِل

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَنْ ينشدنا قصيدته هذه‏؟‏ فقام عليٌّ رضي الله عنه من ساعته، لأن أبا طالب كان أباه فجعل ينشد له بيتًا فبيتًا»‏.‏ فَلما عَلِمْت من إعجاب النبي صلى الله عليه وسلّم قصيدتُهُ ونَعْتُه بالاستسقاء‏.‏ نظمت فيه قصيدةٌ أيضًا بالفارسية وَوَصَفَته فيها بذلك، وأوَّلُهَا‏:‏

اي آنكه همه رحمت مهداة قديري *** باران صفت وبحر سمت ابر مطيري

‏.‏‏.‏‏.‏إلخ الأبيات‏.‏

933- قوله‏:‏ ‏(‏اللهم حَوَالَيَنَا وَلا عَلَيْنَا‏)‏ قال الطِّيبي‏:‏ إنَّ الواو ههنا للتعليل كما في قولهم‏:‏ تجوعُ الحُرَّةُ ولا تَأْكُلُ بثديها‏.‏

باب‏:‏ الإِنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمامُ يَخْطُب

قوله‏:‏ ‏(‏فَقَدْ لَغَا‏)‏ وهو على اللغة، أي اشتغل بما لا يعنيه، فإنه كان تكفيه الإشارة‏.‏ وقد مرَّ عن الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى أنه يجوز للإمام عند الحاجة دون القوم‏.‏ وفيه حكاية عن المثنوي‏:‏ «صلى ثلاثةُ رجالٍ وكانوا حمقاءَ، فَتَكَلَّم أحدُهم في الصلاة‏.‏ فقال له الآخَرُ وهو يصلِّي‏:‏ إنَّ الكلامَ في الصلاةِ مُفْسِدٌ»‏.‏ فقال الثالث‏:‏ فَشُكرًا لله حيثُ لم أتكلم»‏.‏

باب‏:‏ السَّاعَةِ الَّتي في يَوْمِ الجُمُعَة

واختلفوا في تعيينِها، وبقائها، ورَفْعها على عدة أقوال ذكرها الحافظ رحمه الله في «الفتح»، ولا نطوّل الكلام بذكرها‏:‏ فذهب أحمد وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أنها بَعْد العصر‏.‏ قال أحمد‏:‏ وأكثرُ الأحاديث إلى أنها بعد العصر‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّها من الخُطبة إلى الصلاة‏.‏ واحتج بحديث أبي موسى الأشعري‏.‏ وعَلَّلَهُ أحمد رحمه الله تعالى وأشار إليه البخاري أيضًا‏.‏ وعَدَّها الشاه وَلِيُّ الله رحمه الله تعالى من ساعات الإجابة في هذا اليوم، وإن كانت الموعودة هي ما بعد العصر، وهو جَمْع حَسَنٌ‏.‏

قلتُ‏:‏ والظاهر أنها بعد العصر والموعودة هي هي، وفيها خُلِق آدم عليه السلام‏.‏ وفي الأحاديث في فَضْل الجمعة أنه خُلِق فيها آدمُ‏.‏ ولما كان الفَضْلُ فيها من جهة خَلْق آدم عليه السلام، ناسب أن تكون تلك الساعةُ هي ساعةَ خَلْقِهِ فإن قيل‏:‏ لما كانت تلك الساعةُ لأجل يوم الجمعة، والبركةُ فيها من جهة الصلاة، فينبغي أن تكون متقدمةً عليها أو معها، لا بعدها‏.‏

فإن المقصود مُتأخِّر‏.‏

قلتُ‏:‏ بل هي كالوقوفِ تُقَدَّم على طواف الزيارة، مع أن المقصود هو هذا الطواف‏.‏ وعند أبي داود‏:‏ «أن ابتغوا تلك الساعةَ في آخِر ساعاتِ العصر»‏.‏ وحَسَّنه المُنْذري، وعلَّله الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏ وَقَدْ أَجَبْتُ عنه‏.‏ وفيها مذاكرة بين عبد الله بن سَلام وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ذكَرَها الترمذي وابن ماجه‏.‏ وفيها قال عبد الله بن سَلام‏:‏ هي بعد العصر إلى أن تَغْرُبَ الشَّمْسُ‏.‏ فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «فكيف تكون بعد العَصْرِ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يوافِقُها عبدٌ مُسلم وهو يصلِّي، وتلك الساعةُ لا يُصلَّى فيها‏؟‏ فقال عبدُ الله بن سلام‏:‏ «أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَنْ جَلَس مجلِسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في الصلاة»‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ «فهو ذاك»‏.‏

وعُلم منه أن عبدَ الله بن سلام أجابه بنوع تأويل، وحَمَل قوله‏:‏ «وهو يُصَلِّي» على انتظار الصلاة، فإنه الصلاةُ حُكْمًا‏.‏ ويُتَوهَّم من ابن ماجه أن هذا التفسير مرفوعٌ، والصواب أنَّه مُدْرج، فلا تَغْفُل وقد تنحَّيت عنه‏.‏ وعندي معنى قوله‏:‏ «وهو قائم يُصلِّي» وهو ثابتُ القدم في صلاته حيث يداومُ ويحافظ عليها‏.‏ فذلك الوَعْدُ لِمَنْ كان يصلِّي الصلاة والجُمُعات، ويقومُ بِحَقِّها لا لِمَنْ تغافَل عنها وجعلها وراءَ ظهره، حتى إذا حضرتِ الجمعةُ وأدركَ تلك الساعةَ طَمِع في أن يَحْصُل له ذلك الأَجْرُ‏.‏ ثُمَّ رأيتُ نحوه عن كَعْب الأحبار عند «شارح الإحياء» وفي التوراة أن تلك الساعةَ بعد العَصْر‏.‏ وهو الصَّواب عندي‏.‏

935- قوله‏:‏ ‏(‏وأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا‏)‏‏.‏ ولذا قلتُ‏:‏ إن حديثَ أبي داود يَدُلُّ على التأخير الشديد في صلاةِ العَصْر‏.‏

باب‏:‏ إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإِمامِ في صَلاةِ الجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإِمامِ وَمَنْ بَقِيَ جائِزَة

ولا تَصِح الجمعةُ عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا إذا كان القومُ أربعين رجلا‏.‏ وعندنا تَنْعَقِدُ بأربعةٍ مع الإِمام‏.‏ وفي رواية‏:‏ بثلاثة، فإن نفروا بعد التحريمة فهل يتم ظهرًا أو جمعة‏؟‏ راجِعْهُ في الفقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏تَرَكُوكَ قَائِمَا‏)‏‏}‏‏(‏الجمعة‏:‏ 11‏)‏ فإن قلت‏:‏ كيف وهم أتقى الناسِ في الأَرَضِين وأزهدُهم بعد الأنبياء والمرسلين‏؟‏ قلتُ‏:‏ والجواب كما في «التوشيح» للسيوطي‏:‏ أن الخُطبة في الجمعة كانت على شاكلة العيدين بعد الصلاة، ثم قدِّمت عليها‏.‏ فلعلهم حَمَلوا استماعَها على الاستحباب، وظَنُّوه كسائر الخُطَبِ، ولم يَرَوْهُ عزيمةً عليهم، ولا سيما إذا كان عند النَّسائي‏:‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان ينادي بعد العيدين أَنْ‏:‏ «مَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَمْكُثَ فَلْيَمْكُث، وَمَنْ شاء أن يذهبَ فليذهب»‏.‏ وتَرَدَّد فيه الحفاظُ فَدَلَّ على التوسيع في خطبة العيدين‏.‏ وفي «الدرُّ المختار»‏.‏ أن استماع جميع الخطب واجب‏.‏

قلتُ‏:‏ ولا يناسِبُ هذا التوسيع،بل ينبغي أن يُفَصَّل في الأمر‏.‏ أما قوله في البخاري‏:‏ «ونحن نصلِّي»، فهو على نحو تجوُّز من تعبيرِ سِلسلةِ الشيء بالشيء نفسه، فأطلق الصلاة على ما بقي من متعَلَّقات الصلاة‏.‏ وهذا كما أنك تقول‏:‏ اذهب للصلاة، مع أن الإمام لَمَّا يَخْطُب بعد‏.‏ وذلك لأنك تَعُد الخُطْبَةَ والصلاةَ والدعاءَ كلَّها صلاةً لكونِها في سلسلةِ تسميةٍ للمجموع باسم العُمدة فيه‏.‏ فلما كانت الصلاةُ هي المقصودةَ، والخطبةُ قبلها والدعاءُ بعدها من متعَلَّقاتِهَا، عَبَّروا عن المجموع بالصلاة‏.‏ ولا يقولُ من أَهْل العُرْف واحدٌ منهم إنه يذهبُ للخُطبة‏.‏ ثم للصلاة‏.‏ ثم الدعاء مَثَلا، ولكنهم يعبِّرُون بالصلاة‏.‏ فهذا هو الوجه في تصحيح ذلك المقال، فدع عنك القيل والقال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏وإذا رَأَوْا تجارةً أَو لَهلأ انفضوا إليها‏}‏‏)‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 11‏)‏ وإنما سُمِّي لهوًا عتابًا‏.‏ قالوا‏:‏ ومِنْ هؤلاء الاثني عَشَر العشرةُ المُبشَّرَةُ‏.‏

فائدة‏:‏

قال شيخنا مولانا شيخ الهند‏:‏ إنَّ الكلام كُلَّما صدَر من عظيم ازداد تَطَرّقَا للمجاز‏.‏ قلتُ‏:‏ بل كلامُ كلِّ عظيمٍ يحتوي على علومٍ كثيرة، ولذا تجِدُ الفَرْق بين القرآن والحديث‏.‏ فكلامُ العظيم أَشْمَلُ، وكلامُ الأوساط أَصْرَح، لأن كلامَهم يكون منسلِخًا من علومٍ عديدة‏.‏ فينزل إلى الصَّراحة لا محالة‏.‏ ولذا ترى الناس يتناولون تصانيف الأَقْرَبَ فالأَقْرب بزمانهم، لأنه يكون أَشْبَهَ بذوقهم‏.‏ ولذا أقول‏:‏ إن مرادَ اللفظ لا يتعيَّنُ إلا بالتعامل، فإنه يَخْلُص به المرادُ، ويتميز المقصودُ عن غيره، بخلاف اللفظ، فإنَّه وإن صُرِّح لكنه لا تنقطع عنه احتمالاتُ المجاز وغيره‏.‏ وقد بلوتهم أنهم يسَوُّون القواعد للنقيضين، فأي رجاءٍ منها بعده، فإذا رأى أحدُهم حديثًا ضعيفًا وافق مذهبهُ يُسَوِّي له ضابطةً، ويقول‏:‏ إن الضعيف يَنْجَبِر بِتَعدُّد الطرق‏.‏ وإن رأى حديثًا صحيحًا خالف مذهبه يُسوِّي له ضابطةً أيضًا، ويقول‏:‏ إنه شاذُّ، وهكذا جَرَّبْتُهم في مواضعَ يفعلون كذلك، فيجعلون القواعد حَسَب مرادهم من الطرفين‏.‏ لا أريدُ به هَدْر هذا الباب، بل إن الطرد لا يليقُ به إذا اتضح ثورٌ من حِراء، وأين البيان بعد العيان‏؟‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا

قيل‏:‏ إنه يشيرُ أنه ليس فيه حديثٌ عنده، ولذا أخرج حديث الظهر‏.‏ وقيل‏:‏ بل يشيرُ إلى القياس على الظهر، فالسُّنن قبل الجمعة مِثْلُها قبل الظهر‏.‏ أما السُّنن البَعْدية فقد ثَبَت الحديثُ فيها عند مسلم‏.‏ وأما القبلية فقال ابن تيمية‏:‏ إنه لم تثبت فيه سُنَّةٌ مستقلة، بل كان الأمر فيها عندهم على الإِطلاق بِحسَب سعة الوقت، فكم شاؤا صَلُّوا‏.‏

قلتُ‏:‏ ولو صَحَّ لفظ ابن ماجه‏:‏ «قبل أن تجيء» المار آنفًا لَصَلَح حجةً للقبلية أيضًا‏.‏ واحتج به الحافظ الزَّيلعي رحمه الله تعالى للقَبْلية كما مَرَّ، ولها رواية عند الزَّبِيدي في «شَرْح الإحياء» أيضًا‏.‏ ثم الأَرجح عندي في البَعْدية أن يقدم الشَّفْع على الأربع كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه‏.‏ وثبت في أحاديث الأَرْبع والركعتان أيضًا‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 10‏)‏

باب‏:‏ القَائِلَةِ بَعْدَ الجُمُعَة

أَمْرٌ بعد الحَظْر فلا يفيد إلا الإِباحة‏.‏ وهكذا فليقس عليه قوله‏:‏ «لا تَفْعَلوا إلا بِأُمِّ القرآنِ» فلا يفيد الاستثناء غير الإباحة‏.‏

938- قوله‏:‏ ‏(‏على أَرْبِعَاءَ في مَزْرَعَةٍ‏)‏ وكانت تلك المزرعةُ تُسْقى من بئئر بُضَاعة كما عند البخاري في‏:‏ باب تسليم الرجال على النساءِ والنساء على الرِّجال، عن سَهْل قال‏:‏ «كنا نَفْرَحُ بيوم الجمعة‏.‏

قلتُ‏:‏ ولِمَ قال‏:‏ كانت عجوز لنا تُرْسِل إلى بُضَاعة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وليس التصريحُ به إلاّ في هذا الموضع‏.‏ نَبَّه عليه الياقوتُ الحَمَوي في «مُعْجَم البلدان» ولم ينبه عليه غيره‏.‏ وهذا هو مراد الطحاوي بكونه جاريًا في البساتين، أي كانت المزارِعُ تُسقى منها فلم يكن الماءُ يستقر فيها، وكان الماء ينبع فيها من التحت، ويخرج من الفَوْق وهو أيضًا نوعٌ من الجريان‏.‏ والناس لَمَّا لَمْ يُدْرِكُوا مرادَه طَعَنوا فيه‏.‏

كتاب‏:‏ الخَوْف

باب‏:‏ صَلاةِ الخَوْف

فيها فوائد‏:‏

الفائدة الأولى‏:‏ في تحقيق صفات تلك الصلاة، وتَنْقيحها، وترجِيح بعضِها على بعضٍ من حيثُ التَّفَقُّه‏:‏ فاعلم أنه قد ثبت فيها صفاتٌ عديدة سردَها أبو داود والنَّسائي، وكلها تؤول إلى ستةٍ كما نقحها ابن القيم في «زاد المعاد» وقال‏:‏ إنَّ النَّاس حمَلوا الأحاديث فيها على صفاتٍ مستقلة مع كون أكثرِها من اختلاف الرواةِ‏.‏ ونَقَل عن أحمد رحمه الله تعالى أن تلك الأحاديثَ الستةَ كُلُّهَا صِحاح‏.‏

قلتُ‏:‏ إن الصفاتِ كُلَّها جائزةٌ عند الكلّ، كما صرَّح به القُدوري في «التجريد»، وعلي القاري، وصاحب «الكنز» في المُسْتَصفى، وكذلك في عبارة الكَرْخي، و«مراقي الفلاح»‏.‏ فلا يُؤخذ بما في «فتح القدير»، ففيه إيهامٌ شديدٌ بعدَم جواز الصِّفات غير ما اختارها أصحابُ المتون، وكذا إيهامٌ في «فتح الباري» في «المغازي»‏.‏ والصَّواب أنها جائزةٌ كلُّها عند الكلِّ‏.‏ كيف وقد صَحَّت الأَحاديثُ في كلها، فلا سبيل إلا بالتزام الجواز‏.‏ نعم يجري الكلام في الترجيح‏.‏ فالصِّفَةُ المشهورة في متون الحنفية‏:‏ أنَّ الإمامُ يُصلِّي بالطائفة الأُولى ركعةً، وتذهبُ تلك وِجَاه العَدُو، وتجيء الطائفةُ التي لم تصلِّ بعدُ وتصلِّي خَلْفَه ركعةً‏.‏ ثُمَّ يُسلِّم الإمامُ وتمضي هذه وِجاه العَدُو، وترجِعُ الأُولى وتركع ركعةً أُخرى، كالمسبوق وتُسَلّم، وتذهب إلى مكانِ الطائفة الثانية‏.‏ وتجيءُ تلك وتُتِمُّ صلاتَها كاللاحق، وتركع ركعةً ثُمَّ تُسَلِّم‏.‏ هذه صفتُها في عامّة متوننا، وهي أحسن الصفات باعتبار بقاء ترتيبِ الصلاة‏.‏ ففيها فراغُ الإِمام قبل المُقْتدي دون العكس، وفيها فراغُ الطائفة الأولى أولا والثانيةِ ثانيًا كما يقتضيه الترتيب، إلا أنَّ فيها قُصورًا أيضًا، وهو كَثْرةُ الإياب والذهاب، وهذا مَشْيٌ في الصلاة دونَ الصلاةِ مَاشِيًا، فإن الصلاة ماشيًا لا تجوز عندنا‏.‏

ولنا صفةٌ أخرى في الشروح، وليس فيها ذلك المحذور، وهي‏:‏أن الطائفة الثانية بعدما صلَّت ركعةً مع الإمام تُتِمَّ صلاتَها في مكانها وتُسَلِّمُ، ثُمَّ ترجِع الأُوْلى وتُتِم صلاتَها، فَقَلَّ فيها المشيُ أيضًا وإن لزِم فراغُ الثانية قبل الأولى‏.‏

أما الشافعية فاختاروا أن الإمام يصلِّي بطائفةٍ ركعةً، ثم يقوم الإِمام ويُتِمُّون هؤلاء لأنفسِهم ويذهبون إلى العدو، وينتظرُ الإمام الطائفةَ الأخرى حتى إذا جاءت صلَّى بهم ركعةً، ويسلِّم‏.‏ وتقومُ تلك الطائفةُ وتُتِم لأنفسِهم‏.‏ وقال المالكية‏:‏ إن الإمام بعد الركعةِ الأخرى ينتظرُ القومَ في القعدة، حتى إذا أدركوه في القَعدة يُسَلِّم بهم‏.‏

وهذه الصفة وإن كانت أحسنَ بحسبِ قِلَّة المشي لكن فيها قَلْبُ موضوع الإمامة، فإنَّ الطائفةَ الأُولى فَرَغت قبل الإِمام، وفيها أنا لإمام ينتظرُ للطائفة الثانية، وللتسليم أيضًا عند المالكية، وإذا أشدُّ على الحنفية من كَثْرة المشي، ولعلَّ الشافعية رحمهم الله تعالى رَجَّحوها لضعف رابطة القدوة عندهم، فلم يَرَوا في ذلك الاختلال بأسًا، وهي قويةٌ عندنا فرأنيا كَثْرَةَ المشي أهونَ‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ في النظر في الآية، وما يترشح منها من صفة الصلاة، وذِكْر بعض الاعتبارات المناسبة‏:‏ قد تكلموا في الآية، هل تثبت منها صفةُ صلاتِنا أم صفةُ صلاتِهم‏؟‏ فتكلم من الشافعية البيضاويُّ، ومن الحنفية صاحبُ «المدارك»، والشيخُ الآلوسي، وهذا الشيخ قابل «مقامات الحريري» بكتاب سمَّاه «المقامات الخيالية» لكنه لم يُطبع‏.‏ والذي عندي أن الآية لا توافِقُ واحدًا منهما بتمامه، بل سَلَكَت مسلك الإِجمال في موضع التفصيل‏.‏

وأكبر ظني أن القرآن أَجْمَل فيه قصدًا ليتوسَّعَ الأَمْرُ، ولو صرَّح لَتَعَيَّنَتْ تلك الصِّفَةُ، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ نُسِبَ إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى أن صلاةَ الخوف كانت مخصوصةً بِعَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنها شُرِعت حال كونه فيهم‏.‏ وأما بعدَه فلا حاجةَ إليها فَتُصَلِّي هذه الطائفة خَلْفَ إمام، وتلك الطائفة خلفَ إمامٍ آخرَ على الصفة المعهودة، بخلافه صلى الله عليه وسلّم فإنَّ كلا منهم كان يتنافس أن يصلِّي خلفه، فاحتيج إلى صلاةِ الخوف‏.‏

ولا دليلَ عليه عندي‏.‏ فلعلَّهُ مسامحةٌ في النقل عنه، وذكر فيه صفة الركعةِ الواحدة وسكتَ عن حال الركعة الثانية، وكانت هي مَوْضِع الانفصال‏.‏ ثم إنَّه عَبَّر عن صلاةِ الطائفةِ الأولى بالسجدة فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فتبادر منه أنهم بَعْد الركعة تَحَوَّلُوا إلى وِجَاه العدو ولم يُتِموا لأَنْفُسِهم بَعْدُ‏.‏ ول أتموها لأَطلق عليها الصلاة، فإطلاقُ السجدةِ على صلاتِهم يؤيدُ الحنفيةَ، لأنه يَدُلُّ على عدم تمامية صلاتهم بعد، بخلافها على مذهب الشافعية، فإنهم يقولون‏:‏ ثُمَّ إذا بدأ ذِكْر الطائفة الثانية قال‏:‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ أي لم يدخلوا معك في التحريمة‏:‏ ‏{‏فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ فَعَبَّر عن ركعتها بالصلاة‏.‏ فتبادَر منه أنهم أتمُّوا صلاتَهم في ذلك المكان‏.‏ وهذا أقرب إلى الشافعية، فإنَّ الطائفة الثانية عندهم لا تَرْجع حتى تُتِمَّ صلاتها، ومِنْ ههنا قام البحث‏:‏

فقال الحنفية‏:‏ إن المراد من قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُصَلُّواْ‏}‏ فليسجدوا بقرينةِ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ‏}‏‏.‏ وقال الشافعية‏:‏ المراد مِنْ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ‏}‏ فإذا صلوا بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فليصَلُّوا‏.‏

والحاصل‏:‏‏}‏ أن لفظ السجدة في الطائفة الأولى أَقْرَبُ إلى الحنفية، ولفظ الصلاة في الطائفة الثانية أقربُ إليهم‏.‏ نعم لو ذهبنا إلى الصِّفة التي في الشروح لانطبقت الآية على مذهبنا بجزئيها‏.‏ فإنَّ الطائفة الأُولى ترجع بعد ركعة، وتجيء الطائفةُ الأخرى وتُتِمُّ صلاتَها أولا، ثم ترجع وهذه الصفة بعينها في الآية‏.‏ ثم أقول من جانب الحنفية على صفة المتون‏:‏ نكتةَ التعبيرِ لركعة الطائفة الثانية بالصلاة مع أن المرادَ منها هي الركعة، تُرِكَ، فإذا تركه على السجدة فلو أخذ في السجدة ولم يغير التعبير لدل على اتحاد السلسلة، وأن الطائفة الثانية تأخذ من حيث أنه لو قال‏:‏ «ولتأتِ طائفةٌ أُخْرَى لم يُصَلّوا فليسجُدُوا معك» لتُوُهِّم منه شروعُ الطائفةِ الثانية من حيثُ تَرْكُها الأُولى، وهي السجدة، وإن لها هي تلك الركعة فقط، فعبَّر بالصلاةِ تنبيهًا على أن عليهم الصلاةَ تامةً، كالمسبوق‏.‏ وذلك لما قاله سيبويه‏:‏ إن الفاء للسَّرْد، والواو للجمع‏.‏

ومعنى السَّرْد أنها تجعلُ الشيءَ في سلسلةٍ واحدةٍ‏.‏ فالمجيءُ في قولك‏:‏ جاءني زيدٌ فعمرٌو مجيءٌ واحدٌ، تَعَلَّق أولا بزيد، ثم بعمرو، لدلالة الفاء على عدم نقضِ سلسلة المجيء‏.‏ بخلافه في قولك‏:‏ جاءني زيدٌ وعَمْروٌ فإنهما مجيئانِ مجيءُ زيدٍ ومجيءُ عمرو‏.‏ ولا دِلالة لها على كَوْن المجيء في سلسلةٍ أو في سلسلتين وحينئذٍ لو قال‏:‏ ‏{‏فليسجُدُوا‏}‏ لدلت الفاء على اتحاد سلسلةِ سجدة الطائفة الأولى بسجدة الطائفة الثانية، لأن الكلام المليح أن يُفْتح من حيثُ تَرْكُها الأُولى، مع أن المقصود صلاتُها برأسِها مستقلِةٌ‏.‏ فإذا عُلِم أن الصلاة على الطائفة الثانية تامّةٌ، يُعلم حالُ الأولى بالمقايسة، وإن عَبَّر عن صلاتها بالجسدة‏.‏ على أن تعبيرَ ركعتهم بالصلاة ليس نظرًا إلى حالهم، بل إلى حال إمَامِهِمْ، وصلاتُهُ قد تمت عَلى ذلك، وهؤلاء قد صلُّوا بصلاته، فعبَّر عن ركعتهم بالصلاة لذلك، ولا سيما على نظر الحنفية فإن صلاة الجماعة عندهم صلاةٌ واحدة بالعدد، وهي صلاة الإمام، وهي في حَقُّه فعله، وفي حق المأمومين مفعول به كما علمت تحقيقه‏.‏ وتلك اعتبارات متناسبة تجري في كلام البلغاء، يذوقها من كانت قريحتُهُ ارتاضت بمثلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ‏}‏‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ قلتُ‏:‏ وزِيْدَ لَفْظُ «الجِذْر» عند ذِكْر الطائفة الثانية، لأنهم آئبون من وِجاه العدو مُدْبِرين، فخِبف عليه أن يَهْجُمُوا عليهم، بخلاف الطائفة الأُولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏وَلا جُنَاحَ عليكم إنْ كان بكم أذىً مِنْ مطرٍ أو كُنْتُمْ مَرْضَي‏)‏‏}‏‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏- يثقل عليكم حمله ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ‏}‏‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ ولكن ‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 102‏)‏ ولَمَّا أَخَذَ القرآنُ المطرَ والمرضَ عذرًا في مواضعَ، اعتبره الشافعي رحمه الله تعالى عذرًا في مواضعَ، كالجَمْع بين الصلاة عندهم‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ فيما يُستفاد منها في ركعات الصلاة‏.‏ والظاهر من القرآن أن للإِمام ركعتين، وللقوم ركعةً ركعةً، كما ذهب إليه بعضُ السلف أيضًا وإن لم يذهب إليه من الفقهاءِ الأربعةِ أَحَدٌ‏.‏ وهو مذهبُ جمور السَّلَف‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ إنَّه اكتفَى بِذِكْر ركعةٍ للقوم، لأن الأُخْرى ليست لهم مع الإِمام، وإنما يصلُّونها لأَنفسهم، والقرآن بصدَدِ ذِكْر صلاة الإِمام والمأموم كيف صفتها، وقد ذهب بعضُ السلف إلا الاجتزاء بالتكبير فقط إِنْ تعذرت الصلاة‏.‏ وأخذت منه أن التكبيرَ والأذكار رُوْحُ العبادة، فإذا تَعَذَّرت عادت إلى الأصل، ويمكن أن يكون التكبيرُ عندهم كالتَّشَبُّهِ بالمصلين عندنا حرمةً للوقت، ولا صلاةَ عندنا في حال المُسَايفة، فإذا تَعَذَّرَتْ تَأَخَّرَتْ‏.‏

الفائدة الرابعة‏:‏ في التنبيه على أنَّ القرآنَ لم يتعرضْ إلى بيانِ صفةِ الصلاة في غيرها‏:‏ واعلم أن القرآن لم يتعرض إلى بيان صفةِ صلاةٍ من الصلوات إلا صلاةَ الخوف، فقد تعرَّضَ إلى بيان صفتها شيئًا‏.‏ وأما سائر الصلوات فاكتفى بِذِكْر أجزائها فقال‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 238‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏واركَعُوا واسْجُدُوا‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 77‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 130‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏ورتِّل القآرن ترتيلا‏}‏ ‏(‏المزمّل‏:‏ 4‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 78‏)‏‏.‏

فذكرَ القيامَ والركوعَ، والسجودَ، والقراءة، والتسبيح، ولم يذكرِ لها صفةً‏.‏ ولَعلَّك عَلِمت أني لا أقول بالمجاز في تلك الآيات‏:‏ من إطلاق الجُزْء على الكلّ، ولا أقولُ إن المرادَ من الركوع هو الصلاة مثلا، بل المرادُ من الركوع هو الركوعُ نَفْسُه‏.‏ لكن ما يتحققُ منه في ضِمن الصلاة، فالمأمورُ به هو هذه الأجزاءُ في ضمن الصلاة‏.‏ وفائدة ذِكْرِهَا كذلك التنبيهُ على أهمِّ أَجزاء الصلاة‏.‏

الفائدة الخامسة‏:‏ في بيان أنها نزلت في قَصْر العدد أو في الصفة‏:‏ واعلم أنهم أطالوا الكلام في تحقيق أنها نزلت في قَصْر العدد أو الصفة‏؟‏ أعني بِقَصْر العدد قَصْرَ الركعات، وهو في السَّفَر، وبِقَصْر الصفة قَصْرَ الجماعة، وهو في صلاة الخوف‏.‏ وذلك لِعدم إدراكِ كلِّ طائفةٍ الجماعة بتمامها، فلهذه ركعةٌ ولهذه ركعة‏.‏ وسمَّاه ابنُ القيِّم قَصْر الهيئة‏.‏ وإنما اختلفوا فيه لأن قوله بَعْد‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 101‏)‏ يشيرُ إلى أن القَصْر رخصةُ تَرْفيه لا رُخْصَةُ إِسقاط، حيثُ نَفَى الجُناح عن القَصْر فيجوز القَصْرُ وتَرْكُه، وحينئذٍ لو قلنا‏:‏ إن الآية في قَصْر العدد قَوِي مذهبُ الشافعية، وإن قلنا إنها في قَصْر الصِّفة أو قَصْر الهيئة خرج عَمَّا نحن فيه، قيل‏:‏ وهو الأرجح لاتِّسَاقِ النَّظْم حينئذٍ، ولو حملناه على الأول لا يكونُ لقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ‏}‏ مفهومٌ، فإنَّ القَصْر في السفر جائزٌ بدون الخوف إجماعًا‏.‏

والحاصل أنَّ الصُّوَر أربعٌ‏:‏ الإِقامةُ مع الأَمْن وفيها الإِتمام إجماعًا‏.‏ والسَّفَرُ مع الخوف وفيها القَصْر إجماعًا عددًا وصفةً‏.‏

والسَّفَر مع الأَمْن ففيها الخلاف‏:‏ قال الحنفية‏:‏ إن القَصْر فيها حَتْمٌ‏.‏ وقال الشافعية رحمهم الله تعالى‏:‏ بل هو جائزٌ، والإِقامة مع الخوف ففيها قَصْر الصِّفة إجماعًا‏.‏

والذي عندي أنها نَزَلت في قَصْر الهيئة واستتبعت قَصْر العددِ أيضًا، لأن صلاة الخوف لا تكون إلا في حال السفر عادةً، فإذا كان المخاطبون في حال السَّفر وواجهَهُم العَدُوُّ نزلَتْ صلاةُ الخوف، فالمقصودُ منها بيانُ قَصْر الصِّفة، إلا أنه ذكَر فيها قَصْر العددِ لكونهم مسافرين إذ ذاك‏.‏ وقد مرَّ معنا في أوائل الكتاب في تحقيق كون الحدود كفارةً أو زواجِرَ أَنَّ القرآنَ ربما يَنْزِلُ بشيءٍ ثم يُومىءُ إلى مورد نزوله أيضًا، فيتضمن الكلامُ بَعْضَ ما في المورد مع عُموم الحُكْم‏.‏ وحينئذٍ اندفع عنه السؤالُ المشهور كما عند مسلم عن عمرَ رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أن الله تعالى شَرَعَ القَصْر في السَّفَر عند الخوف، ونحن آمِنون الآن»‏.‏- بالمعنى ‏.‏ وحاصل الدَّفْع أن الخوف ليس قيدًا لِقَصْر العدد، بل لأنَّ الآية نزلتْ في قصر الصِّفة، وهو مقيد بالخوف‏.‏ أما القَصْر للمسافر قَصْرُ العدد، فجاء ذِكْرهُ لكونهم مسافرين إذ ذاك، ولا تَعَلُّقَ لهذا القيد بِقَصْر المُسَافر‏.‏

الفائدة السادسة‏:‏ فيما اختاره البخاري من تلك الصفات‏:‏ والظاهر أن البخاري اختار منها صِفَةَ الحنفية وكأَنَّ أقربَ الصفاتِ عنده بِنَظْم النص هي تلك‏.‏ ولذا تلا الآية ثم ذَكر تلك الصفةَ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وحديثُهُ أصحُّ ما في الباب‏.‏ ثم إنه لم يخرِّج صفة الشافعية في هذا الباب، وأخرجها في المغازي، وهذا أوْضَحُ القرائن على أنه اختار صفةَ الحنفية إن شاء اللَّهُ تعالى‏.‏

الفائدة السابعة‏:‏ في شَرْح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ فاعلم أنَّ حديثَ ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه يدلُّ على أن الطائفة الأُولى بعد الركعة انصرفت وِجَاهَ العَدُو‏.‏ ثُمَّ جاءت الطائفةُ الثانيةُ ورَكعتْ مع الإِمام ركعةً ثم سَلَّم الإِمام‏.‏

وهذا القَدْر موافِقٌ لمذهب الإمام، ولا يتأتى الحديثُ على مذهب الشافعية أصلا‏.‏ نعم فيه قوله‏:‏ «فقام كلُّ واحدٍ منهم فَرَكعَ لِنَفْسِه»، ففيه إبهامٌ أنهما كيف أَتَمَّا الركعة الثانية‏؟‏ والظاهر منه صِفَةُ الشروح على ما مَرَّت‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ الخَوْفِ رِجالا وَرُكْبَانًا

ولا صلاة عندنا ماشيًا ولا في حال المُسَايفة‏.‏ والصلاةُ ماشيًا غيرُ المَشْي في الصلاة، فلا تَخْلِط بينهما‏.‏ وكان الظاهرُ من قوله‏:‏ «راجلا» أن تكون صلاةُ الخوفِ جائزةً ماشيًا، لكنه لما فَسَّرَهُ بالقائم دَلَّ أنه اختار مذهب الحنفية، ولم يجوِّز الصلاةَ ماشيًا‏.‏ وكذا لا تجوزُ عندنا راكِبًا إذا كانت تسيرُ دابَّتُهُ، إلا إذا كان مطلوبًا‏.‏

943- قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه نحوًا مِنْ قولِ مجاهد‏)‏ وفيه إشكالٌ شديدٌ وإيهام نضيد‏.‏ أما أولا‏:‏ فلأنه لم ينقل قول ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه ما هو‏.‏ وأما ثانيًا‏:‏ فلأنه عَكَس في العبارة، والظاهر «عن مجاهدَ نحوًا من قول ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه» فإنَّ مجاهدًا تابعي، وابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه صحابيٌّ، فينبغي إحالةُ التابعي على قولِ الصحابي‏.‏ وأما ثالثًا‏:‏ فلأن ما نَقَلَهُ لا يُفَهم له معنىً، ولذا اختلف الشارحان في تحصيل مرادِه، لأنه ذَكَر الشَّرْط ولم يذكر جزاءه، فقال‏:‏ عن ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنه نحوًا من قول مجاهِدَ‏.‏

943- قوله‏:‏ ‏(‏إِذَا اخْتَلَطُوا قِيامًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذا كما ترى لا يظهَرُ له معنىً، فقال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ إن «قيامًا» تصحيفُ «إنما»‏.‏ وحاصل مقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أنهم إذا اختلطوا- يعني في القتال- فإنَّما هو الإشارة بالرأس‏.‏ وأما قولُ مجاهد إذا اختلطوا فإنما هو إشارةُ الرأس‏.‏ ولما كان بين قول ابن عمر رضي الله عنه وقول مجاهد مغايرةٌ يسيرةٌ زاد لفظ‏:‏ «نَحْوًا» من قول مجاهد، لأنه ليس لفظ الذِّكر في قول مجاهد، وإنما هو في قول ابن عمر رضي الله عنه‏.‏

وحاصله‏:‏ أن الإشارةُ بالرأس تكفي عند القتال إذا تعذبت الصلاة، وتجوز الإشارة عندنا أيضًا للراكب‏.‏ وجوَّز محمد رحمه الله تعالى جماعةَ الراكبين خلافًا للشيخين‏.‏ وراجع التفصيل في الفقه‏:‏ قلتُ‏:‏ وأخرج مالك رحمه الله تعالى صفتها عن ابن عمر رضي الله عنه في «موطئه» وليس فيه ذِكْرُ مجاهد، ولا ذِكْر الإشارة بالرأس، فليحرره‏.‏

باب‏:‏ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا في صَلاةِ الخَوْف

ولم أتحصَّل هذه الترجمةَ، فإن الحراسة مرعية في الصفات كلها، ولا اختصاص لها بصفة دونَ صفة‏.‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إنه تَرْجَم به لِذِكْر الحراسة في متن الحديث‏.‏ فهذه الترجمةُ نظرًا إلى لفظِ الحديث لا إشارةً إلى مسألةٍ أو دَفْعَا لمغلطة‏.‏ ثم إن الصورةَ المذكورة في الحديث أنفعُ فيما لو كان العَدُوُّ قِبَلَ القِبْلَةِ‏.‏

944- قوله‏:‏ ‏(‏فَكَبَّر وَكَبَّرُوا مَعَه‏)‏ فاشتركوا كلّهم في التحريمة إلى الركوع، ثُمَّ اختلفوا في الركوع وتناوبوا فيه، وكذلك في السجود لاحتياجهم إلى الحراسة فيهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وَأَتَتِ الطائفةُ الأُخْرَى‏)‏ يعني أن الطائفة الأُولى تَسْتَأَخِرُ بعد ركعةٍ وتتقدم الطائفةُ الأُخْرَى إلى مكانِ الأُوْلى، لا أنها كانَتْ ذهبتَ لَوَجْهٍ، ثم أتت ههنا، ولا أدري لِتَقَدُّم هؤلاء وتأخُّر هؤلاء وجهًا غير أنه أُرِيد به استيفاءُ أَجْر الصفِّ الأول للطائفةِ الثانية أيضًا‏.‏ فإن قلتَ‏:‏ إذا لم يَعْتَن بالصفِّ الأول في الصلوات الخمس بهذه المناسبةِ، فَمَنْ سَبَق إليه سَبَق، فأيّ اعتناء به ههنا حيث يتقدَّمُ هذا ويتأخَّرُ هذا‏.‏ قلتُ‏:‏ والوَجْه أن التأخُّر في الصلوات الخمس كان مِنْ جهته، بخلافه ههنا، فإنَّ الإِمامَ جَعَلَهُمْ صَفَّين فتقدَّم بعضٌ وتأَخَّر بعضٌ بِأَمْرِه، فتدارَكَهُ بهذا الطريق‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الحُصُونِ وَلِقَاءِ العَدُو

يعني إذا نهض كلُّ فريقٍ إلى صاحبِهِ ودخل في الحرب، وقد علمتَ أنه لا صلاةَ عندنا في حال المُسَايفة، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يُصَلِّها يومَ الأَحزاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تُسْتَر‏)‏ مُعَرَّب «شوستر»‏.‏ و «ما يَسُرُّني بِتلك الصلاةِ الدُّنْيا وما فيها»‏.‏ قيل‏:‏ يعني بها الفائتةَ، قاله تَأَسُّفًا على فواتها‏.‏ أقول‏:‏ ولعلَّ المراد بها الصلاةُ التي أَدَّاهَا، فإنها فَاتَتْ عنه لأَجْل شَغْل الجهاد‏.‏

باب‏:‏ صَلاةِ الطَّالِبِ وَالمَطْلُوبِ، رَاكِبًا وَإِيمَاء

وهذا عامٌّ في الخوف وغيره‏.‏ وقد مرَّ أن صلاةَ الطَّالِب لا تصح عندنا بالإِيماء، بخلاف المطلوب على ظَهْرِ الدابة‏.‏ ولا تمسُّك فيه، لأنهم كانوا مطلوبين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يُصَلِّيْنَّ أَحَدٌ العَصْر إلا فِي بني قُرَيْظَة‏)‏ وكان هؤلاء طالبين، والظاهر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم إذا كان أَمَرَهُم بالتعجيل فَلَعَلَّهم لم ينزلوا عن ظهور دَوَابِّهِمْ وَصَلُّوا عليها‏.‏

قلتُ‏:‏ وتَمَسُّكُ المصنِّف رحمه الله تعالى به في غاية الضَّعْف، فإنَّه تَمَسَّكَ بالسكوتِ وليس فيه أنهم صلوا رُكْبَانَا أَوْ قائمين‏.‏ ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم إياهم بهذا التعجيل على نظير تعجيل موسى عليه السلام، حين أُمِر أَنْ يذهب إلى فرعونَ، وتَرَك زوجتَهُ وهي في المَخَاضِ، وكتعجيلِ إِبراهيم عليه الصلاة والسلام حيثُ تَرَكع زوجتَهُ وهي في العَرْصَةِ الخالية، حيث لا ماء ولا كلأَ‏.‏ فهذا نحو تَأَسَ بالأنبياء عليهم السلام في التبادر بالامتثال‏.‏

باب‏:‏ التَّبْكِيرِ وَالغَلَسِ بالصُّبْحِ، وَالصَّلاةِ عِنْدَ الإِغارَةِ وَالحَرْب

وهذا هو التكبير الذي كان في الجيوش، وعند الحروب‏.‏ وفي نسخة‏:‏ التكبير‏.‏

947- قوله‏:‏ ‏(‏وصَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَس‏)‏ يعني في غزوة خَيْبر، لا أنه كان سُنَّةً مستمرةً ليُسْتَدلَّ به في مسألةِ المواقيت‏.‏

كتاب‏:‏ العِيدَين

باب‏:‏ في العِيدَينِ وَالتَّجَمُّلِ فِيه

وعندنا شرائِطُهما شرائِطُ الجُمعة، وكذا تكبيراتُ التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، خلافًا لصاحبيه، فإِنه يكبِّرُ في القُرى أيضًا‏.‏

948- قوله‏:‏ ‏(‏من إِسْتَبْرَقٍ‏)‏ وهو الحريرُ الغليظ، ويقال للرقيق السُّنْدُس‏.‏ وقد علمت أن المِلْك يعتمد على الاستمتاع في الجملة، والحريرُ جائزٌ للنِّسَاءِ فلا بَأْسَ بِبَيْعه وشرائِهِ‏.‏

باب‏:‏ الحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ العِيد

949- قوله‏:‏ ‏(‏جَارِيَتَانِ تَغَنِّيَانِ‏)‏ وقد مرَّ معنا أن النَّظر إلى الأجنبية‏:‏ وجهها وكَفَّيها يجوزُ في المذهب عند الأمن من الفتنة، ويُمْنَع عنه في الفتوى سدًّا للباب‏.‏ وفي «الخارج»‏:‏ أنهما كانتا تدففان أيضًا‏.‏

949- قوله‏:‏ ‏(‏فَاضْطَجَع على الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ‏)‏ وفي رواية‏:‏ أنهما اتَّقَتَا الدُّفَّ لما دخل عمرُ رضي الله تعالى عنه‏.‏ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطانَ لا يدخُلُ فَجَا دَخَلَ فيه عمر رضي الله تعالى عنه»، أو كما قال‏.‏ واستُشْكِل أنه إذا أباح غناءهن أولا، فكيف عدَّه من الأمور المُنْكَرة التي تَحْضُرُها الشياطين آخِرًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وليعلم أن المُغَنِّي يُسمَّى مَنْ يَنْشُد بتمطيطٍ، وتكسير وتهييج، وتشويق بما فيه تعريضٌ بالفواحش، أو تصريحٌ بها‏.‏ وفي الحديث الآتي عند البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «وَلَيْسَتَا بِمُغْنِّيَتَيْنِ»‏.‏ قال القُرْطُبِي في «شرحه»‏:‏ لَيْسَتَا مِمَّنْ يعرفُ الغِنَاء كما تعرِفْه المغنياتُ المعروفات بذلك‏.‏ ولا أرى المُحَدِّثين يبيحون الغناءَ‏.‏ أما المعازف فَنَقَل قومٌ الإِجماع على تحريمها‏.‏ ونَقَل العيني رحمه الله تعالى في «شرح الكنز» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في‏:‏ باب ردّ الشهادة حُرْمَةُ التغني مطلقًا، ولي جَزْمٌ بأنه ليس نَفْيًا للأصل، بل بِحَسَب الأحوال‏.‏ وأَبَاحَهُ ابنُ حَزْم، وإليه مال الغزالي في «الإِحْيَاء»‏.‏ ثم حُرِّر أن بعضَ المباحات تصِيْرُ صغيرةٍ بالإِصرار على نحو ما قالوا‏:‏ إن الصغيرةَ تصيرُ بالإِصرار كبيرة‏.‏

قلتُ‏:‏ وهو تحقيقٌ جيدٌ أَحْرى بالقَبول‏.‏ وأيُّ بُعْدٍ في صيرورةِ المباح صغيرةً إذا كان بعضُ المباحات أَبغضَ عند الله تعالى، كما عند ابن ماجه‏:‏ «أن أبغض المباحاتِ عند الله الطلاقُ»، فوَصَفَ الطلاقَ المباح بكونه مبغوضًا، وحينئذٍ لا بُعْد في بلوغه مرتبةَ الصغيرة بالإِصرار‏.‏

ومن هذا الباب ما عند أببي داود‏:‏ «مَنْ سَرَّه أَنْ يَتَمَثَّل له الناسُ قيامًا فليتبوأ مقعدَهُ من النار»‏.‏ ومع ذلك ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في باب ذَهاب النساءِ والصِّبيان إلى العرس عند البخاري «أنه قام لهم مُمتنًا»‏.‏ وفي نسخة‏:‏ «مثيلا»‏.‏ وفي لفظ‏:‏ «ممثلا»‏.‏ اه‏.‏ وذلك لاختلاف الأحوال فيه‏.‏ فالشيء قد يكون مِنْ آخِر مراتب الإِباحة بحيث لا تبقى بعدها إلا مرتبةُ المنع‏.‏ وفيها تتجاذبُ الإباحة والنهي فيبَاحُ لكونها كذلك في نَفْس الأمر‏.‏ ويُنْهَى عنه لكونِهِ يُخشى أن تَنْجَرَّ فتقع في الحرام‏.‏ وأحسنُ الطُّرق وأعدلُهَا ما اختاره النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَحَوَّل وجهه عنه‏.‏ وفي رواية‏:‏ «غط»، دلالةٌ على أنه وإن أغمضَ وسامح عنه، لكنه ليس راضيًا ولا مُتَلَذِّذًا به‏.‏ فلو نهى عنه صراحةً لَفُقِدت الإباحة، ولو لم يَغْمُض عنه وَحَظِي به لارتفعت الكراهة أصلا‏.‏ وهذا هو حالُ الإِباحة المرجوحة‏.‏

ولعلك عَلِمْت منه الفَرْقَ بين طريق النبي صلى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر رضي الله عنه حيثُ كان طريقُه الإِغْماض، وطريقُ أبي بكر السَّخَطَ والاغتياظ، فلو سلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم طريقَ أبي بكر رضي الله عنه لَحَرَّمَ الغناء، ولم تَبْقَ منه مرتبةٌ في حدِّ الجواز‏.‏ ولو فَعَل أبو بكر رضي الله عنه مِثْلَ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم لم يُسْتَحْسن منه، لأنه لا يُحرَّم ولا يَحِل بإِنكاره شيءٌ، فالأليق بشأنهِ ما يَنْسَدُّ به الباب‏.‏

وقال الشاه إسماعيل‏:‏ إنه كان فِعْل الشيطان، لكن ليس كُلُّ فِعْلِه حرامًا وإن كان قبيحًا‏.‏ وهو أيضًا يؤوَّلُ إلى ما قلنا آنِفًا‏.‏ وحينئذٍ فالحاصل أنه فرّق بين قليل الغناء وكثيرهِ، والاعتيادِ به وعدِمه‏.‏ فالقليل منه مباحٌ والإِصْرار يَبْلُغُ حَدَّ الْمُنْع، وبِمْثله الفَرْقُ في الدُّفِّ‏.‏

وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لو كان بطريق الإِلهام فممنوعٌ‏.‏ ثم إن الفَرْق بالقلة والكثرة شَائِعٌ‏:‏ ففي فِقْهنا أنالأشربة من غير الأربعة يجوزُ القليلُ منها دون الكثير، وكذا الحرير يجوزُ بِقَدْر الأصابع الأربعة دون الكثير، وهكذا في القرآن‏:‏ ‏{‏إلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفةً مِنْهُ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 249‏)‏ فأباح الغَرْفة ومنع عمَّا زاد‏.‏ ومن هذا الباب حديث الائتمام‏:‏ «إنما جُعِل الإِمَامُ لِيؤتَمَّ به»، وفيه‏:‏ «إِذَا صلى قاعِدًا فصلوا قعودًا»‏.‏ ليس فيه إلا أَحَبِّيةُ القعودِ وجوازُ القيام كما استقرَّ عليه الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏ وراجع مسألة القيام من «المدخل» لابن الحاج المالكي‏.‏

949- قوله‏:‏ ‏(‏مِزْمَارةُ الشَّيْطَانِ‏)‏ ‏(‏بانسرى‏)‏، وذكرها بطريق الإِلزام وإلاّ فلم تكن هناك مِزْمَارة‏.‏

950- قوله‏:‏ ‏(‏بَنُو أَرْفِدَة‏)‏ لَقَبٌ للحبشَةِ، ثم قيل‏:‏ إنها واقِعَةٌ قبل نزولِ الحِجَاب‏.‏

باب‏:‏ سُنَّةِ العِيدَينِ لأَهْلِ الإِسْلام

باب‏:‏ الأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ الخُرُوج

951- قوله‏:‏ ‏(‏يخطُب‏)‏ وهذه خطبةُ العيد بعد الصلاة‏.‏ ويُتوهَّم منتعبير الراوي كَوْنُهَا قُبَيْلَها‏:‏ «فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا»‏.‏ وفيه الترجمة‏.‏

باب‏:‏ الأَكْلِ يَوْمَ النَّحْر

والمستحبُ في ذلك اليوم أن يأكلَ من أُضحيته‏.‏

وعلم أن الأُضحيةَ تجوز في القرى قبيل الصلاة بعد الطلوع، بخلافها في المِصْر‏.‏ قال الترمذي‏:‏ بعد سَرْدِ الحديث‏:‏ «والعملُ على هذا عند أهل العِلم أَنْ لا يضحِّي بالمِصْر حتى يصلِّي الإِمامُ‏.‏ وقد رخَّص قومٌ من أهل العلم لأهل القُرى في الذَّبْح إذا طلع الفَجْرُ»‏.‏ اه‏.‏ وهذه العبارةُ تشيرُ إلى أنه لا جُمعةَ في القرى‏.‏

954- قوله‏:‏ ‏(‏جَذَعة‏)‏ وهو في اللغة‏:‏ ما تَمَّتْ له أربعةُ أشهر‏.‏ وفي الحديث أنه كان له خاصّةً لقوله‏:‏ «ولَنْ تُجْزىءَ لأَحَدٍ بَعْدَك»‏.‏

باب‏:‏ الخُرُوجِ إِلَى المُصَلَّى بِغَيرِ مِنْبَر

واعلم أن السُّنة أن يخرجَ الإِمام بدون مِنْبر‏.‏ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم هكذا كان يخرج ولم يكن مِنْبرٌ بالمُصلَّى أيضًا‏.‏ نعم يُعْلم من الروايات أنه كان هناك موضعٌ مرتَفع يخطُب عليه، لما في البخاري «ثُمَّ نَزَل»، ثم بَنَاهُ كَثِير بن الصَّلْت في عهد الخلفاء من لَبِن وطِين‏.‏ ثم إن من السُّنة تقديمَ الصلاةِ على الخُطبة‏.‏ وإنما قَدَّمها مراونُ على الصلاةِ لأنه كان يَسُبُّ عليًا رضي الله عنه وكان الناس يقومون عنها، فقدَّمها على الصلاةِ لهذا‏.‏ وأما تقديمُ عثمانَ رضي الله عنه فكان لِمَصْلَحةٍ أُخرى‏.‏

955- قوله‏:‏ ‏(‏أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ‏)‏ أي إحداهما التي ذبحتها ولم تُعتبر، والثانية هذه‏.‏ كانت تلك أحبَّ شَاتيه لا أنَّ تلك كانت أسمنَ وأحبَّ من الشاتين‏.‏

باب‏:‏ المَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى العِيدِ والصّلاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ بِغَيرِ أَذَانٍ وَلا إِقامَة

واعلم أنه لم يَثْبُ الأذانُ والإِقامةُ للعيدين في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما تفرَّد به ابنُ الزُّبير رضي الله عنه‏.‏ وكم له مِثْلُ هذه التفردات كما مرَّ من قبل‏.‏ نعم كان بلالٌ ينادي بالصلاة جامعةً، ولذا أُجيز بنحوه في الكُسوف أيضًا‏.‏ ونعم ما قال أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ الأصلُ في العبادات أن لا يُشْرِع منها إلا ما شرعه اللَّهُ، والأَصل في المعاملات أن لا يُحْذَر منها إلا ما حَذَّرَ اللَّهُ منه‏.‏

باب‏:‏ الخُطْبَةِ بَعْدَ العِيد

حدثنا أبو عاصم‏:‏ أخبرنا ابن جُرَيج قال‏:‏ أخبرني حسن بن مسلم، عن طاوس‏.‏ واعلم أن الحسن هذا من أَخصِّ تلامذة طَاوُس وهو يسأل عن رَفْع اليدين ويحقِّقُه عن طَاوُس‏.‏ فعلم أن رَفْعَ اليدين ليس شيئًا بديهيًا كما فَهِمه الخُصومُ‏.‏ ثم الحسنُ هذا من رواة البخاري‏.‏

964- قوله‏:‏ ‏(‏لم يُصَلِّ قَبْلَها ولا بَعْدَهَا‏)‏‏.‏ وفي «البحر»‏:‏ لا يُصلِّي فيه صلاةَ الضُّحَى أيضًا وإن اعتاد عليها‏.‏ وعن عليَ رضي الله عنه أنه رأى رجلا يُصلِّي بالمُصَلَّى، فقال له الناس‏:‏ «ألا تَنْهَى عنها‏؟‏ قال‏:‏ لم أَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يصليها في ذلك اليوم، إلا أني لا أمنُعه خشيةَ أن أدخل في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتَ الذي يَنْهَى عَبْدًا إذا صَلَّى‏}‏ ‏(‏العلق‏:‏ 9‏)‏‏.‏ وقال مولانا عبد الحيِّ رحمه الله تعالى‏:‏ إن عدَمَ ثبوتِ الصلاة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بالمُصَلَّى، لا يدل على كراهة الصلاة فيه في ذلك اليوم‏.‏ قلتُ‏:‏ بل يَصْلُحُ حجةً عند المجتهد، فله أن يَحْمِل هذا العدمَ لكون الصلاةِ في ذلك مكروهةً بالمصلى، كما قررت في مسألة المحاذاة‏.‏ ومطالبةُ النصوص في مواضع الاجتهاد وليس دأبًا صحيحًا‏.‏

باب‏:‏ ما يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاحِ في العِيدِ وَالحَرَم

ولم يُتعرَّض إلى هذه المسألة في كُتُبنا لا نَفْيًا ولا إثباتًا‏.‏ وأتى المصنف رحمه الله تعالى بلفظ «من»- وهي للتبعيض عندي- في جميع كتابه، فتكون إشارةً إلى التقسيم فيه‏.‏

966- قوله‏:‏ ‏(‏أَنْتَ أَصَبْتَنِي‏)‏ معناه أَنك صِرْتَ سببًا لذلك، لأنك إذا أجَزْتَ حَمْلَ السلاح في ذلك اليوم، فأصابتني جِراحةٌ من حَرْبة، فكأَنك أصبتني بها‏.‏ ولولا أنت أجزت حَمْلَ السلاح لما كان كذلك‏.‏ أو يقال‏:‏ إن الحجَّاج حَسَد على ابن عمر رضي الله عنه، وأراد أن لا يرجِع إليه الناسُ في فتاواهم‏.‏ فأشارَ إلى رجلٍ أن يُصِيبَهُ بحربة مسمومةٍ ففعل، ومات ابنُ عمرَ رضي الله عنه من أثر هذه الجراحةِ، فَعَرَّض إلى ذلك‏.‏

باب‏:‏ التَّبْكِيرِ إِلَى العِيد

واعلم أن السُّنة في العيد أن تُصَلَّى عَقِيْبَ خروجِ وَقْت الكراهة، فإنْ قضيَتْ في أول يوم فلا قضاء لها عند الإِمام رحمه الله تعالى، إلا عِنْد صاحبيه رحمهما لله تعالى، فإنها تجوز في اليوم الثاني أيضًا‏.‏ وراجع التفصيل في الفقه‏.‏ وفي نسخة‏:‏ «التكبير» بدل «التبكير»‏.‏

والتكبير سنةٌ جهرًا للأضحى، وللفِطْر سِرًّا عند ابن الهمام رحمه الله تعالى‏.‏ ومنع منه «صاحبُ البحر» أصلا‏.‏

قال الشيخ ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى‏:‏ إن التكبيرَ ذِكْرُ الله، كيف يُنْهى عنه فهو في الأحوال كلِّها‏.‏ وقال ابن نُجَيم رحمه الله تعالى‏:‏ إنَّ حقيقة البدعة هي- هو يعني- جَعْلُ أَمْرٍ لم يثبت عن السلف رحمهم الله تعالى معمولا به‏.‏

قلتُ‏:‏ والقويُّ ما ذهب إليه ابنُ الهُمام، فقد أخرج الطحاوي رحمه الله تعالى رواياتٍ تَدُلُّ على ثبوتِ التكبير عند السَّلف، بل على الجَهْر أيضًا، فالمختار عندي أن يأتي به في الفِطْر أيضًا‏.‏